سوريا الجديدة- المصالحة الإقليمية والاستقرار الاقتصادي بقيادة الشرع

استهل الرئيس السوري الجديد، أحمد الشرع، ولايته الرئاسية بسلسلة لقاءات رفيعة المستوى، تجسدت في استقبال أمير دولة قطر في العاصمة دمشق، تبعتها زيارتان هامّتان إلى كل من الرياض وأنقرة، حيث التقى بولي العهد السعودي والرئيس التركي. هذا التحرك الدبلوماسي الإقليمي المكثف يُعد بمثابة باكورة جهوده كرئيس لسوريا، وذلك عقب المؤتمر الذي منحه هذه الصفة الرسمية والقانونية والدستورية. وقد شهد المؤتمر مشاركة شخصيات قيادية بارزة في الإدارة الجديدة، إلى جانب جميع قادة الفصائل العسكرية، باستثناء قوات سوريا الديمقراطية "قسد".
جاء هذا الحراك الدبلوماسي في أعقاب المؤتمر مباشرة، بل إن هذه الجولة المكثفة، التي تمثلت في ثلاثة لقاءات إقليمية متتالية، أوحت بأنها الدافع وراء انعقاد المؤتمر والنتائج التي أسفر عنها، لا سيما فيما يتعلق بتسمية رئيس الجمهورية. ومن شأن ذلك أن يمنح الشرع ثقلاً سياسياً كبيراً في لقاءاته مع قادة وزعماء المحور الداعم لاستقرار سوريا. وغالبًا ما تُمهد هذه اللقاءات الثلاثة الطريق لسلسلة من الاجتماعات رفيعة المستوى على الصعيدين العربي والدولي.
محور الأمن والاستقرار
على مدى عقد ونيف من الزمان، كانت سوريا بؤرة للفوضى وعدم الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط. واليوم، وبعد زوال نظام الأسد، تلوح في الأفق فرصة سانحة لإحداث تغييرات جذرية، تستطيع من خلالها الدول الساعية إلى تحقيق الهدوء والاستقرار في المنطقة، كسب الموقع الجيوسياسي السوري عن طريق دعم وتعزيز هذه الإدارة الجديدة وفرضها، وذلك في مواجهة المحاور والتحالفات الأخرى التي تسعى إلى استمرار الاستثمار في الفوضى لتحقيق مصالحها الخاصة.
إن الرئيس الشرع وحكومته الجديدة يدركون تمام الإدراك الأهمية الاستراتيجية التي يتمتع بها موقع سوريا المتوسط، وأن الشراكات الوثيقة القائمة بين قطر وتركيا، والشراكات المتنامية والمتوسعة بين السعودية وتركيا، تستدعي بالضرورة حرص الدول الثلاث على ضمان أمن سوريا واستقرارها. وبالتالي، فإن تقديم الدعم السياسي والأمني والاقتصادي يهدف إلى إنهاء كافة العوامل التي تهدد الأمن الإقليمي والأمن الوطني في سوريا.
إنهاء مشروع التقسيم
لطالما تعاملت تركيا مع الملف السوري باعتباره جزءًا لا يتجزأ من أمنها القومي، وذلك انطلاقًا من اعتقادها الراسخ بأن إدارة أوباما قد وضعت خططًا بالتنسيق مع نتنياهو لدعم مشروع انفصالي يُعادي المصالح التركية، وهو ما سيؤدي حتمًا إلى تقسيم سوريا.
ربما كان سقوط نظام الأسد مفاجئًا بعض الشيء، نظرًا للسرعة والطريقة التي انهار بها، إلا أن أنقرة لن تولي اهتمامًا كبيرًا لهذه المفاجأة، بل ستسارع إلى تقديم الدعم للإدارة الجديدة المتحالفة معها، وذلك لفرض سيطرتها الكاملة على البلاد، والقضاء على المشاريع الانفصالية التي تهدد أمن تركيا. وستوظف تركيا شراكتها المتميزة وعلاقاتها المتينة مع المملكة العربية السعودية في سعيها لإيجاد إطار إقليمي داعم للإدارة السورية الجديدة.
الانفتاح التركي على العرب
لم يكن خافيًا على أحد الدور الدبلوماسي التركي الفعال، الذي يهدف إلى كسب ثقة العمق العربي للإدارة السورية الجديدة. بل إن تركيا لم تبدِ أي اعتراض على أن تكون الزيارة إلى الرياض قبل الزيارة إلى أنقرة. فحكومة أردوغان لا ترغب في العودة إلى حالة الاستقطاب التركي العربي مرة أخرى.
والرئيس الشرع، الذي لم يخفِ إعجابه بالتجربة الاقتصادية والتنموية السعودية، يدرك تمامًا أن تحقيق التوازن في العلاقات العربية التركية يمثل أمرًا بالغ الأهمية والحساسية في هذه المرحلة. لذلك، جاء هذا الحراك الدبلوماسي متتاليًا وحريصًا على تجنب أي تصورات خاطئة بشأن الاستقطابات، بل إن الإدارة السورية الجديدة تعمدت تعزيز الانطباع بحصولها على دعم إقليمي عربي وتركي في آن واحد.
التأثير على الموقف الأميركي
تترقب دول المنطقة، على اختلاف مواقفها من الحكومة الجديدة في سوريا، إعلان إدارة ترامب عن موقف الولايات المتحدة. وتأمل بعض الدول، وعلى رأسها إسرائيل، في أن يستجيب الرئيس الأميركي الجديد لأصوات داخل إدارته تدعوه إلى اتخاذ موقف سلبي تجاه الإدارة السورية الجديدة. في المقابل، تعمل الدول الإقليمية الداعمة، وفي مقدمتها تركيا، جاهدة لإقناع الإدارة الأميركية الجديدة برفع العقوبات المفروضة على سوريا.
من المتوقع أن يؤثر اجتماع الرياض وأنقرة على موقف داعم للإدارة السورية الجديدة بشكل كبير على موقف ترامب وإدارته الجديدة. وسيكون مشروع أنقرة بإنشاء قواعد تركية في البادية السورية محفزًا لواشنطن في اعتماد الإدارة السورية الجديدة شريكًا محليًا في مكافحة الإرهاب، ومنع عودة الميليشيات المرتبطة بالحرس الثوري الإيراني إلى سوريا مجددًا.
الحاجة لدعم الاستثمار والاقتصاد
قد تتقدم أولويات ضبط الأمن وتحقيق الاستقرار على ما سواها في الحالة السورية، على المستويين الخارجي والداخلي على حد سواء. غير أن الوضع الاقتصادي المتدهور في سوريا يمثل جزءًا لا يتجزأ من التحديات الرئيسية التي تؤثر بشكل مباشر على الحالة الأمنية والمشهد السياسي برمته.
تحتاج دول المنطقة إلى دعم الاستثمار وتحريك عجلة الاقتصاد في سوريا، وذلك بهدف تقليل الآثار السلبية للفقر والبطالة على المنطقة، وفي مقدمتها أزمة اللاجئين وأزمة الاتجار بالمخدرات. إضافة إلى ذلك، فإن إنعاش الاقتصاد السوري سيسهم بشكل كبير في تحقيق التنمية والتطوير على مستوى المنطقة وتعزيز التجارة البينية بين دولها.
وبقدر إعجاب الرئيس الشرع بالتنمية الاقتصادية التي تشهدها المملكة العربية السعودية، فإنه معجب كذلك برسوخ مؤسسات الدولة في تركيا. وتمثل زيارة البلدين فرصة سانحة لتحقيق التعاون المثمر في المجالات الاقتصادية والاستثمارية والإدارية، وذلك بعد أن تنجح كل منهما في الضغط لرفع العقوبات الجائرة.
يحمل الحراك الدبلوماسي الخارجي المكثف للرئيس السوري الجديد دلالة واضحة على أن العامل الخارجي الداعم على المستوى الإقليمي يحظى بأهمية قصوى في تقديره، ويسهم بشكل فاعل في تجاوز التحديات الراهنة والتهديدات المتوقعة. فضلًا عن الدور المحوري الذي يلعبه الحلفاء الإقليميون، قطر والسعودية وتركيا، في إكساب الإدارة السورية الجديدة ثقة المجتمع الدولي، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية، والغرب عمومًا، وإقناعهم برفع العقوبات عن سوريا ودعم استقرارها، بعيدًا عن الحياد حيال من سيحاول التعطيل واستمرار الفوضى، فضلًا عن دعمه وتأييده.